هِيلْما غرانكڤيست
بقلم صوفيا هاغمان
هِيلْما غرانكڤيست (1890-1972) أول امرأة في فنلندا تحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة العملية. في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، أجرت تحقيقا إثنولوجيا مفصلا في قرية أرطاس الفلسطينية. وقد قوبلت منهجيتها الرائدة والنتائج غير المتوقعة التي قدمتها بمعارضة في جامعة هلسنكي، ومُنعت في نهاية المطاف من الدفاع عن أطروحتها ومن قبولها لمنصب أستاذ مشارك في الجامعة. وفي حين أنّ عملها سرعان ما نسي في فنلندا، لا يزال الفلسطينيون يشيدون بها.
المراهقة والـتعـلـيـم
مراهقة مكتئبة كان لها اهتمام عميق بالناس
ولدت هِيلْما ناتاليا غرانكڤيست في هلسنكي في17تموز/ يوليو1890. جاء والداها كارل أوسكار غرانكڨيست وإيدا (ني ستورك)، من بلدة سيبوSibbo الريفية، ولكنهما كانا يعيشان في هلسنكي حيث كان كارل أوسكار يمتلك شركة نقل. كانت هِيلْما طفلهما الأول. وُلد شقيقها ڨالترValter بعد ذلك بعامين، في شباط/ فبراير 1892، وولد شقيقها الأصغر، غــونارGunnar، في عام1895. كانت هِيلْما قريبة من الشقيق الأكبر. كان دعمه المعنوي والمالي مفيدًا في مسيرة غرانكڨيست الأكاديمية.
بالحكم على مذكراتها المبكرة، فإن غرانكڨيست تبدو وكأنها يافعة وجادة. وأقرَّت بان المراهقة كانت فترة صعبة وأنها كانت عرضة للكآبة. كانت هوايتها المفضلة هي القراءة والكتابة. لكنها كانت أيضا شديدة الملاحظة وكان لديها اهتمام صادق بالآخرين. كتبت غرانكڨيست عددا من المقالات، مستوحاة من قصص والدتها عن صديقاتها ومعارفها من سيبو، والتي استندت إليها في أفكارها لسلسلة من البرامج الإذاعية التي حاولت بيعها لاحقا إلى هيئة الإذاعة الفنلندية.
على الرغم من حبها للكتابة، إلا أنها لم تحقق أداءً جيدًا في المدرسة في هذا الموضوع؛ كانت أفضل مواضيعها الجغرافيا والتاريخ والدين. وكانت مهتمة بالمواضيع الدينية والوجودية منذ صغرها، ولكن دائمًا من وجهة نظر الآخرين.
التحقت غرانكڨيست في المعهد السويدي للتعليم المستمرSvenska fortbildningsläroverke في هلسنكي في أيار/ مايو1911، وفي خريف ذلك العام بدأت دراستها في كلية إيكينيس للمعلماتEkenäs . هناك أصبحت صديقة للمؤلفة والفنانة هيلينا ڨيسترمارك Helena Westermarck وقد بدأت صداقتهما مع حصول غرانكڨيست على وظيفة صيفية في حزيران/ يونيو1912، لكنها سرعان ما تطورت إلى صداقة وثيقة والتي شملت أيضا شقيق هيلينا، عالم الأنثروبولوجيا البارز، إدوارد ڨيسترمارك. Edward Westermarck
القوة ضد العقيدة والإيمان بالسلطة
تخرجت هِيلْما غرانكڤيست في ربيع عام 1914، لكنها درَّسَت لبضع سنوات فقط في مدارس مختلفة في هلسنكي قبل الالتحاق بالجامعة في خريف عام 1917.
كانت سنتها الدراسية الأولى في جامعة هلسنكي درامية شهدت اندلاع الثورة في روسيا، والنضال الفنلندي من أجل الاستقلال والحرب الأهلية. تم إغلاق الجامعة، ولم تتمكن غرانكڤيست من بدء دورات الفلسفة وعلم التربية وعلم النفس التي كانت تتطلع إليها. وخلال فترة وجودها في الجامعة، تمكنت من كسب عيشها والبقاء على اتصال بالنظام التعليمي من خلال التدريس.
وتمكنت غرانكڤيست الآن من التعمق أكثر في القضايا الدينية التي كانت تهمها عندما كانت فتاة صغيرة. وكانت مهتمة بشكل خاص بالطريقة التي يجري بها التعليم الديني داخل النظام المدرسي الفنلندي.
في ربيع عام 1921، حصلت غرانكڨيست على درجة الماجستير في الآداب من خلال أطروحتها "الدين في المدارس"، وهي دعوة ذاتية لإصلاح التعليم الديني في المدارس. كما كتبت كتيباً بعنوان "مشكلة الدين في عصرنا"، والذي إنتقدت فيه رجال الدين بطريقة أغضبت الكثيرين، ولا سيما داخل الكنيسة.
ومع ذلك، أُعجب معلمو غرانكڨيست في الجامعة بتفكيرها وقدرتها على التعبير عن أفكارها. رأى غــونار لاندتمان Gunnar Landtman، أستاذ مؤقت في الفلسفة العملية، فيها طالبة أبحاث واعدة، واقترح عليها أن تدرس للحصول على درجة الدكتوراه. حتى أنه أعطاها موضوعًا اعتقد أنه يناسبها: النساء في العهد القديم. سَخِرت غرانكڨيست لاحقًا من فكرة إعطاء "موضوع نسائي" نموذجي، لكنها شرعت في هذه المهمة بجدية وإتقان. نظرًا لأن فرص البحث كانت محدودة في هلسنكي، فقد انتقلت إلى جامعة فريدريش فيلهلمFriedrich Wilhelm University في برلين في خريف عام 1922 حيث بقيت لأكثر من عام بقليل.
الطريق إلى فلسطين
كانت السنة التي قضتها في ألمانيا محورية لعمل غرانكڨيست في المستقبل. وفي برلين، واجهت نهجا مختلفا جدا في البحث الأكاديمي. ولم تكن دائما قادرة على إخفاء حقيقة أنها بدأت ترى أن الأساليب التي يستخدمها أساتذتها في هلسنكي قد عفا عليها الزمن.
كما تواصلت في برلين مع العلماء الذين درسوا فلسطين الحالية كمصدر لفهم المجتمع في زمن العهد القديم. اعتبر هؤلاء العلماء فلسطين والشرق الأدنى على أنهما لا يتغيران ولا يتأثران بالتقدم الغربي. واستخدموا المناظر الطبيعية والاكتشافات الأثرية كبرهان على تاريخية القصص التوراتية. حتى الأشخاص أنفسهم كان يُنظر إليهم على أنهم مشاركون في نوع من اللوحات الحيّة في الكتاب المقدس. اعتقدت غرانكڨيست في حينه أنها ستكون قادرة على فهم نساء العهد القديم من خلال دراسة الحياة المعاصرة في فلسطين.
وبما انها كانت محاطة بالعلماء الذين يزورون الأراضي المقدسة بانتظام، سرعان ما تجرأت غرانكڨيست على الحلم بالسفر إلى هناك بنفسها من أجل دراسة نساء الكتاب المقدس في بيئتهن المشروعة. وقد شجعها شقيقها ڨالتر والأساتذة الألمان جميعًا بحماس، كما قدّرت هيلينا وإدوارد فيسترمارك قيمة إجراء الدراسات الميدانية في فلسطين.
ومع ذلك، لم يقتنع غـونار لاندتمان، المشرف على غرانكڨيست. وسرعان ما أدرك أن الرحلة ستضللها عن المسار الذي خططه لها، وأنها ستحمل إلى الأبد طابع عالم إثنولوجي ميداني، وهو ما لم يكن ميّزة محترمة في رأيه. كما أنها كانت أيضًا مسألة مال. واتضح على الفور أنه سيتعين تنظيم الرحلة من خلال جامعة ألمانية لأن جامعة هلسنكي لم تتمكن من تقديم التشجيع أو التمويل.
وفي النهاية، استضاف البروفيسور ألبريخت آلت Albrecht Alt غرانكڨيست في لايبزيغ Leipzig والذي ألحق بها في مقرره الأساسي في التاريخ الثقافي في المعهد الألماني في القدس (المعهد الإنجيلي الألماني للدراسات الكلاسيكية للأراضي المقدسة). كانت غرانكڨيست متحمسة، ولكن كان لا بد من التغلب على مشكلتين: كانت الدورة مفتوحة للرجال فقط، وكان عليها جمع المال بنفسها للسفر إلى هناك. وحل البروفيسور آلت المشكلة الأولى بسلاسة بالحصول على تصريح خاص لغرانكڨيست لتصبح أول امرأة تشارك في الدورة. أما المشكلة الثانية فقد حُلّت بمنحة سفر من (Nylands Nation) اتحاد الطلبة في هلسنكي.
الرحلة الأولى إلى فلسطين (1925-1927)
علاقات صداقة جديدة في مدينة القدس الدولية
بعد أن سافرت غرانكڨيست عبر ألمانيا والنمسا وإيطاليا ومصر، وصلت غرانكڨيست أخيرا إلى فلسطين في نهاية صيف عام 1925. لم تكن القدس كبيرة في ذلك الوقت، ولكنها كانت مدينة دولية مثيرة للدهشة، وسرعان ما اختلطت بعلماء الآثار واللاهوتيين وعلماء الإثنولوجيا من جميع أنحاء العالم. ووجدت في سينيي إكبلاد Signe Ekblad، مديرة المدرسة السويدية في القدس، صديقة لديها شبكة علاقات جيدة وواسعة بين السكان المحليين وكذلك بين المغتربين.
كون غرانكڨيست المرأة الوحيدة في الدورة التدريبية لم يقلقها بأي شكل. بل على العكس من ذلك، تمتعت بالاهتمام الذي اولاه لها زملاؤها. أطلقت عليهم اسم "علماء الآثار-اللاهوتيين"، وهو اسم ملائم للعلماء الذين كانوا، مع وجود الكتاب المقدس في متناول اليد، يحفرون لاكتشاف تاريخ بني اسرائيل القدماء. وكان أحدهم، ليونارد روست Leonhard Rost، قريبا بشكل خاص من غرانكڨيست. وكان اعجابه الصادق بها وهوسه الشديد بداية صداقة وثيقة دامت سنوات عديدة.
قرية أرطاس
ولكي تتمكن غرانكڨيست من القيام بعملها الميداني الخاص، احتاجت إلى إيجاد مجتمع تعيش فيه الثقافة الموصوفة في الكتاب المقدس في أنقى صورها. وجدته في قرية أرطاس بالقرب من بيت لحم. كان يعتقد في ذلك الوقت أنه كان من الممكن العثور على ثقافة بني إسرائيل القدامى بشكل خاص بين السكان الفلاحين المسلمين. كان المنطق هو أن الفلاحين المسلمين كانوا على صلة عميقة بالأرض ولا يميلون إلى الابتعاد عنها. كانت أرطاس مأهولة فقط من قبل المسلمين، وبالتالي فهي مثالية لغرانكڨيست.
ميّزة أخرى لأرطاس كانت وجود امرأة ذات جذور أوروبية، لويز بالدنسبرجر Louise Baldensperger ابنة مبشر من الإلزاس. عاشت "ست لويزا" في أرطاس طوال حياتها وكانت تحظى باحترام كبير بين القرويين. لقد كانت رابطًا طبيعيًا وحيويًا لمجتمع محافظ حيث كان ينظر إلى الغرباء بريبة. وسرعان ما اكتسبت غرانكڤيست، نزيلة ست لويزا والتي كانت معروفة في القرية باسم "ست حليمة"، بثقة القرويين. لم يمض وقت طويل قبل أن يتم الترحيب فيها في منازلهم وأصبحت من الزوار المتكررين للختان والأعراس والجنازات.
تغيير في وجهة تركيز البحث وبداية الصراع
بعد بضعة أيام فقط في أرطاس، أدركت غرانكڤيست أنه من المستحيل دراسة القرية من منظور الكتاب التوراتي. وقررت بدلا من ذلك دراسة المجتمع على أساس مزاياه الخاصة، مع التركيز على تقاليد الزواج وطقوس الزفاف.
ثَبَّط غونار لاندتمان بشدة هذا التغيير غير المتوقع للأحداث. من وجهة نظره، كانت دراسة غرانكڤيست المقترحة لطقوس الزواج دراسة تجريبية للغاية للحصول على درجة الدكتوراه، وشكك في قبولها من قبل جامعة هلسنكي. ومن الواضح أن لاندتمان كان يتوقع عملاً ميدانيًا أكثر محدودية في نطاقه، وهو دراسة ميدانية تهدف في نهاية المطاف إلى تأكيد آراء المجتمع الأكاديمي الراسخ، وليس ميدانا جديدا تماما يستند إلى مواد غير معروفة حتى الآن. كانت أفكار غرانكڤيست ببساطة جديدة جدًا ومختلفة للغاية بالنسبة للجامعة الفنلندية.
وعلى مسافة آمنة من هلسنكي، وبدعم حماسي من آل ڨيسترمارك، صديقتها هيلينا وشقيقها ادوارد، لم تبال غرانكڤيست بتحذير لاندتمان وواصلت عملها وفقا لخطتها الخاصة. وكان الصدام حتمياً.
ولم يكن الصراع بين غرانكڨيست والمشرف عليها، غـونار لاندتمان، فحسب؛ بل ايضا بين نهجها العلمي الجديد في البحث الأكاديمي والنهج التقليدي الذي مارسه أساتذة مرموقون في جامعتها. وكان الأساتذة يشكلون معًا تجمعًا أكاديميًا مؤثراً من الذكور ويتمتع بالسلطة ضد غرانكڤيست الباحثة الوحيدة. كانت فرصها في الفوز في تلك المعركة ضئيلة منذ البداية.
مائة عام من الزواج
بفضل الدعم المخلص والصادق لإدوارد ڨيسترمارك، تمكنت غرانكڤيست من إيجاد الشجاعة للوقوف في وجه مشرفها. ومع ذلك، لم تتفق دائمًا مع ڨيسترمارك، وأنها لم تكن تخشى انتقاد التقاليد التطورية التي مَثَّلها. ومن وجهة نظرها، انه ذهب بعيدًا في تعميماته في العمل الابداعي" تاريخ الزواج البشري". وفي حين روى ڨيسترمارك قصة الزواج عبر تاريخ البشرية، اختارت غرانكڤيست دراسة الزواج فقط في أرطاس، وهي قرية لا يزيد عدد سكانها عن 500 نسمة.
ولم تقتصر الطريقة التي طورتها في أرطاس على الملاحظات فحسب؛ بل للعيش بنشاط والمشاركة في حياة المجتمع الذي راقبته. وقبل ذلك ببضع سنوات، استخدم عالم الأنثروبولوجيا برونيسلاف مالينوسكي Bronislaw Malinowski طريقة ميدانية مماثلة في جزر تروبرياند. ويعتبر مالينوفسكي أول من مارس أسلوب "مراقبة المشاركين" الرائد. طورت غرانكڤيست نهجاً مماثلاً في فلسطين، ولكن عملها لم يكتسب أبداً الاعتراف الدولي الذي تمتع به مالينوفسكي.
عارضت غرانكڤيست التعميم. وبدلا من ذلك، بذلت قصارى جهدها لوصف كل ما لاحظته وراقبته بالتفصيل الدقيق. جمعت بيانات إحصائية شاملة عن كل زواج في أرطاس بقدر ما يتذكره القرويون، أي منذ أكثر من 100 عام. ونتيجة لذلك، تمكنت من إثبات أن النظرية تختلف اختلافا كبيرا عن الواقع. وفي حين توصل علماء سابقون إلى استنتاج مفاده أن الزواج بين أبناء العمومة هو القاعدة بين الفلاحين المسلمين، فقد تمكنت غرانكڤيست أن تثبت أنه في الواقع ليس شائعا كما كان يعتقد سابقا؛ على الأقل ليس في أرطاس.
كانت غرانكڤيست طموحة للغاية. وكانت دراستها عن الزواج وطقوس الزفاف مجرد بداية. وتابعت جمع البيانات عن الولادة والختان والطفولة وتربية الأطفال والوفاة والجنازات إلى أن غطت كل جانب من جوانب دورة الحياة في أرطاس.
استخدام التصوير الفوتوغرافي
غرانكڤيست كانت من أوائل علماء الإثنولوجيا الذين استخدموا التصوير الفوتوغرافي في هذا المجال. لم يكن هناك نقص في المصورين العاملين في الأراضي المقدسة في عشرينيات القرن العشرين، ولكن بينما اختار الآخرون الزخارف التوراتية، التقطت غرانكڤيست صوراً لأشخاص وأنشطة ذات صلة بأبحاثها. التقطت مئات الصور في أرطاس، معظمها لنساء.
وشكلت هذه الصور جزءا هاما من بحثها. لقد أولت الكثير من الاهتمام للتفاصيل، ولم تسمح للأشخاص او رعاياها بالوقوف أمام الكاميرا. وبدلا من اختزال النساء الى عنصر زخرفي غريب ومجهول، كما فعل المصورون الآخرون، قامت بإدراج اسمائهن. وعلى الرغم من أن المهارات التقنية لغرانكڤيست كمصورة فوتوغرافية لم تقترب من مهارات المحترفين، إلا أن صورها تشكل جزءا من مجموعة فريدة توّثِق مجتمعا زراعيا فلسطينيا في عشرينات القرن العشرين.
تصاوير مستنيرة لحياة نساء أرطاس
كانت غرانكڤيست تدرك جيدًا مدى تفرد وقيمة بحثها. كانت هناك مشكلة واحدة فقط، كانت تتحدث القليل من العربية. في البداية، عملت ست لويزا كمترجمة فورية وتحريرية لها، ولكن سرعان ما تعلمت غرانكڤيست ما يكفي من اللهجة المحلية لتكون قادرة على العمل بشكل مستقل. وجدت أيضًا مدرسًا للغة، وحرصت على فحص جميع استشهاداتها واقتباساتها من قِبل الخبراء. لم يمنع هذا الآخرين، وخاصة زملائها في هلسنكي، من السخرية من استخدامها للغة العربية. واليوم، تُعتبر ملاحظاتها الميدانية مصدرًا قيمًا للمعلومات حول لهجة أرطاس.
وتعرضت كتب غرانكڤيست عن أرطاس للانتقاد في وقت لاحق لمجرد سرد حقائق غير معالجة، دون تقديم تحليلات أو استنتاجات، ومع كل ذلك فقد لقيت قبولا حسنا. كان المراجعون إيجابيين بشكل خاص حول اسلوبها الابداعي وطريقتها المبتكرة والموضوع غير العادي. هذه الكتب لا يمكن أن تكون مكتوبة إلا من قبل امرأة لديها إمكانية الوصول إلى أعماق المرأة وكسب ثقتها.
لم تكن نساء أرطاس مجرد أداة بحث. شعرت غرانكڤيست وكأنها في منزلها في جو ترحيبي ووجدت عائلة في ست لويزا ومخبرتيها الراويتين علياء وحمدية.
أساتذة غير متعاطفين ودكتوراه مؤجلة
غادرت غرانكڤيست فلسطين في شباط/ فبراير 1927 وعادت إلى هلسنكي. شعرت أن المعارضة ضد أبحاثها تتزايد داخل قسمها في الجامعة، وفي أوائل ربيع عام 1929 وصفت الوضع بأنه "صراع صامت" بينها وبين أستاذ الأدب الشرقي كنوت تالكفيست Knut Tallqvist. كانت تتطلع إلى الدفاع عن أطروحتها، حتى تتمكن من العودة إلى أرطاس في منحة سفر منحتها اياها الرابطة الأمريكية للجامعيات.
لذلك، تم "سحق غرانكڤيست تماما" عندما أبلغها غونار لاندتمان في آذار/ مارس 1929، بعد التشاور مع كنوت تالكفيست Knut Talqvist، أنه لن يسمح لها بالدفاع عن أطروحتها لأنها كانت "وصفية بحتة" وكانت المواد "غير مثيرة للاهتمام".
وفي يأسها، لجأت إلى إدوارد ڨيسترمارك. دعاها للمجيء والبقاء معه في لندن حتى عودة السادة المحترمون في هلسنكي إلى رشدهم. أمضت ربيع عام 1929 في كلية لندن للاقتصاد حيث شاركت في حلقات ڨيسترمارك الدراسية وتمكنت من مناقشة بحثها، سواء مع الطلاب الآخرين أو مع "الملوك" مثل مالينوسكي.
نهاية الصداقة
في وقت لاحق من ذلك العام، غادرت غرانكڤيست لندن متوجهة إلى برلين حيث قَبِلت بعد بعض المداولات عرض ليونارد روست لترجمة أطروحتها إلى الألمانية، "من أجل الأزمنة القديمة". لقد كانت مهمة تستغرق وقتًا طويلاً، ولم يشير روست أبدًا انه من الممكن ان يكون عملا مرهقًا. فكانت رسالته المؤرخة في 23 تشرين الثاني / نوفمبر 1929 بمثابة صدمة. والتي أعرب فيها روست عن رغبته في أن يتم الاستشهاد به إلى جانب غرانكڨيست كمؤلف مشارك. مما أغضب غرانكڤيست، وبذلك انفصلت عن روست. قررت بدلاً من ذلك نشر أطروحتها باللغة الإنجليزية لتجنب خطر ادعاء روست بالملكية المشتركة للنص.
الرحلة الثانية إلى فلسطين (1930-1931)
اضطرابات سياسية ومشاكل شخصية
كان الانفصال عن روست مزعجا، وكان من دواعي الارتياح لغرانكڨيست العودة إلى فلسطين في كانون الثاني/ يناير 1930. لقد حدث الكثير منذ زيارتها السابقة. تزايدت حدة الاحتجاجات ضد تدفق المهاجرين اليهود وتزايد حدة العنف الطائفي. انخرطت غرانكڤيست في السياسة، وفي إحدى المناسبات شاركت في مسيرة قادها مفتي القدس الأكبر.
كان الوضع في أرطاس هادئًا نسبيًا، وبالنسبة لغرانكڤيست كان الأمر أشبه بالعودة إلى الوطن. لقد جمعت معظم بياناتها وموادها خلال زيارتها الأولى وتمكنت الآن من الاستقرار للعمل. حتى أنه كان لديها الوقت لكتابة الأوراق الأكاديمية فضلا عن المقالات للصحف في كل من فنلندا والسويد. كما احتفظت بدفتر يوميات مفصل، موَضَّحة بالصور الفوتوغرافية، أرسلتها إلى والدتها وإلى شقيقها فالتر.
لكنها لم تكن في سلام تام. على الرغم من أنها لا تزال منشغلة بليونارد روست، إلا أنها وجدت خصمًا أكبر في أبيلي ساريسالو Aapeli Saarisalo. كان يجري بحثًا في شمال فلسطين، وخلال غياب غرانكڤيست، بدأ يهتم بأرطاس. حتى أنه أجرى مقابلة مع لويز بالدينسبيرجر حول طقوس الزواج. كان ساريسالو منافسًا جديدًا وخطيرًا يدعو للقلق.
بحلول ربيع عام 1930، لم تتلقى غرانكڤيست أي معلومات حول ما إذا كان سيسمح لها بالدفاع عن أطروحتها في جامعة هلسنكي. أصبح الوضع لا يطاق. كانت ممزقة بين رد إدوارد ڨيسترمارك الإيجابي وانتقاد كنوت تالكفيست اللاذع، والذي تم ابلاغه لها من خلال لاندتمان.
دعم المستعمرة السويدية الأمريكية في القدس
وكان من بين المشاكل التي لاقت ترحيبا بتحويل الانتباه عن مشاكل غرانكڤيست هو التفكك الدرامي للمستعمرة الأمريكية في القدس، وهي طائفة دينية جاء معظم أعضاؤها من قرية ناس في مقاطعة دالارنا السويدية. كانت قد قرأَت عنهم لأول مرة في رواية "القدس" لسيلما لاغيرلوف Selma Lagerlöfs، ولكن في خريف عام 1930 تم تقديم رواية مختلفة تمامًا لغرانكڤيست عن طريق المصور لويس لارسون Lewis Larson، وهو عضو سابق في الطائفة.
قاد لارسون فصيلًا منشقًا واستطاع تقديم أدلة على إساءة استخدام السلطة والازدواجية في التعامل وثقافة المخبرين وراء الواجهة المثالية للمستعمرة التي لا تشوبها شائبة. لم تتوافق هذه المعلومات الجديدة مع وصف سيلما لاغيرلوف لـ "رسالة الحب المسيحية القديمة" الخاصة بالطائفة. شعرت غرانكڤيست بأنها مضطرة للتعمق أكثر، وبدأت العمل على مقالة عن المستعمرة.
خلال شتاء 1930-1931، تمكنت غرانكڤيست أيضًا من القيام برحلات قصيرة إلى أجزاء أخرى من فلسطين والمناطق المجاورة. في نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول، سافرت بالقطار إلى مصر مع صديقاتها سينيي إكبلاد Signe Ekblad وسينيي ودينغ Signe Weding. أمضوا ثلاثة أسابيع في زيارة القاهرة وأسيوط والأقصر وأسوان والمناطق المحيطة بها. كانت رحلة استرخاء ممتعة ومجزية، لكن غرانكڤيست لم تبدي حماسا كبيرا للآثار الفرعونية. كانت أكثر اهتماما بأسواق وبازارات القاهرة واحتفالات أبو الحجاج في الأقصر.
سلسلة من النكسات
دكتوراه ومنصب كأستاذ مشارك مرفوض
عادت غرانكڤيست إلى فنلندا في آذار/ مارس1931. بعد شتاء من الانتظار الطويل والقلق، تخلت أخيرًا عن الأمل في السماح لها بالدفاع عن أطروحتها في هلسنكي. ومن خلال تدخل إدوارد ڨيسترمارك، تمكنت بدلاً من ذلك من الدفاع عن أطروحتها "أحوال الزواج في قرية فلسطينية" في أوبو أكاديمي في 13كانون الثاني/ يناير 1932. وتضمنت فقط الفصول الأربعة الأولى، أكثر من 350 صفحة، من دراستها الشاملة. نُشرت الفصول المتبقية في المجلد الثاني عام 1935.
نالت دراستها استحسانًا كبيرًا، لا سيما في الخارج، وكانت غرانكڤيست تتطلع إلى مواصلة عملها. كانت تهدف في المقام الأول للحصول على أستاذ مشارك في جامعة هلسنكي لأنها ستوفر كلاً من الدخل والبحث المستمر.
عرفت غرانكڤيست أن الأمر لن يكون سهلاً. تم رفض طلبها السابق للحصول على منحة جامعية في هلسنكي لأنها كانت قد حصلت على درجة الدكتوراه في أوبو أكاديمي، كان من الواضح أنها كانت بحاجة إلى حماية نفسها بمزايا ومؤهلات لا تشوبها شائبة. لذلك، بدأت بحثًا عن المرأة وثقافة الشرف في فلسطين، لكنها لم تكن راضية بالنص أبدًا. بالتوازي مع مقال الشرف، قامت بتحرير المجموعة الواسعة من الابحاث حول الولادة وتربية الأطفال التي جمعتها في أرطاس.
وقد سرّت غرانكڤيست كثيرا بمواصلة العمل مع المواد التي جمعتها في أرطاس، ولكنها لم تدر دخلا. ثم في آذار/ مارس 1933، أصبح المنصب الذي بدا انه قد تم توفيره لها متاحًا، منصب مدير في كلية التدريس للنساء في إكيناس Ekenäs، والتي هي نفسها كانت قد التحقت بها. ولعله امر مفهوم ان تصاب غرانكڨيست بخيبة أمل عندما أُعطي المنصب لمرشح أقل كفاءة وتأهيلاً.
النضال من اجل منصب أستاذ مشارك
بعد خيبة الأمل المحيطة بمنصب المدير، تخلت غرانكڤيست عن التدريس من أجل التركيز على طلب منصب أستاذ مشارك. نشرت ورقتيها المبكرتين حول التعليم الديني، وجمعت شهادات وتوصيات من باحثين علماء مشهورين دولياً.
وأخيرًا قدمت طلبها للحصول على وظيفة أستاذ مشارك في جامعة هلسنكي في نهاية شباط/ فبراير1935. تمت مناقشته بشكل متقطع في أكثر من اجتماع في قسم التاريخ اللغوي لأكثر من عام مرارًا وتكرارًا، وتم تمريره بين الأساتذة؛ لا أحد يريد التعامل مع الأمر، تم وضعه على الرف.
يمكن العثور على نقطة ضعف واحدة بشكل خاص في محضر أحد هذه الاجتماعات التي يذكر فيها أبيلي ساريسالو افتقار غرانكڤيست إلى مهارات اللغة العربية. لم يُطلب من ساريسالو أبدا أن يقدم رأيا رسميا، لكن هذا لم يمنعه من الحكم ليس فقط على مهاراتها اللغوية؛ كما قدم اتهامات لا أساس لها من الصحة بسوء السلوك المهني.
يظهر مشرف غرانكڤيست، غونار لاندتمان، بشكل بارز في ملاحظاتها الخاصة من عام 1935.لقد كان يجري مكالمات هاتفية تهديدية متكررة يطلب منها سحب طلبها. افترضت أن كنوت تالكفيست هو الرجل الذي يقف وراء حقد وخبث ساريسالو ولاندتمان.
أخيرًا، في1 شباط/ فبراير 1936، بعد الكثير من الجدل والعديد من التحفظات، أدلى قسم فقه اللغات التاريخية بأصواتهم لصالح إعلان هيلما غرانكڤيست "مؤهلة أكاديميًا للحصول على منصب أستاذ مشارك في علم الاجتماع". بعد أسبوع، ألقت محاضرة تنصيبها بنجاح ساحق. ثم تم تسليم قضيتها إلى المستشار الذي سيعينها رسميًا.
تم الإعلان بالفعل في صحيفة هلسنكي Hufvudstadsbladet أن غرانكڤيست أصبحت الآن أستاذًا مشاركًا، ودون أي تفسير إضافي رفض المستشار الطلب. وهكذا لم تصبح هيلما غرانكڤيست أستاذًا مشاركًا في جامعة هلسنكي، ولا في أي مؤسسة تعليمية أخرى. وبالتالي، لم يكن لديها أي طلاب كانوا سيتمكنون من مواصلة أبحاثها.
السنوات المظلمة 1936-1939
الصراع من أجل منصب أستاذًا مشاركًا ألقى بظلاله على عام 1935. وكان العزاء الوحيد هو معرض لصور غرانكڤيست من أرطاس في متجر ستوكمان، الذي افتتح في عيد الفصح في العام نفسه. لقد كان نجاحًا كبيرًا، ونشرت العديد من الصحف مقالات عن حياتها الاستثنائية وأبحاثها. كما عُرضت الصور نفسها في مؤتمر عُقد في غوتنغن Göttingen في الخريف.
في غوتنغن، أدركت غرانكڤيست لأول مرة التطورات السياسية في ألمانيا. وقد صدمت بشدة عندما شهدت إذلال بعض الضيوف اليهود في مطعم، واضطرت إلى إعادة النظر في إعجابها بكل شيء ألماني.
وبعد أربع سنوات، سمعت أدولف هتلر يتحدث في تجمع حاشد في ميونيخ. ولم تدافع عن رسالته ولم تدنها. وبدلا من ذلك، حاولت أن تفهم كيف يفكر ووجدت أوجه تشابه مع الطريقة التي سعى بها الإسرائيليون للحفاظ على نقاء عرقهم في القصص التوراتية. وعلى الرغم من انها لاحظت الملصقات التي تحمل شعارات معادية لليهود وإدراكها أن عدد المتاجر اليهودية أقل من ذي قبل، إلا أنها لم تنظر بجدية قط في عواقب أفكار هتلر حول التطهير العرقي.
وقد وقع حدثان آخران محزنان في نهاية الثلاثينات. توفيت هيلينا ڨيسترمارك في عام 1938، وفي العام التالي تم إبلاغ غرانكڤيست عن وفاة ست لويزا.
ثم، بعد طول انتظار، كان هناك بعض الأخبار السارة: فقد حصلت على الجائزة الثالثة في مسابقة العلوم الشعبية التي نظمتها دار النشر السويدية أهلين وسونر Åhlén & Söner. واستندت رسالتها إلى حياتها وأبحاثها في أرطاس. وقد نشر في عام 1939 تحت عنوان "الحياة الأسرية العربية".
قضاء "حرب الشتاء" مع مستعمرة القدس
شجعت نجاح وشعبية "الحياة الأسرية العربية" غرانكڤيست على مواصلة الكتابة الشعبية لجمهور أكثر عمومية. وضعت مقالاتها العلمية جانبًا وركزت على كتابها عن المجتمع الديني السويدي. كانت المخطوطة واحدة من عدد قليل فقط من المواد التي أخذتها معها عندما اندلعت حرب الشتاء في فنلندا واضطرت فجأة لمغادرة هلسنكي. اثناء الحرب، عادت الى سيبو بحثت وتعمقت في ملاحظاتها عن "القدس".
وكانت النتيجة نقدا كبيرا لرواية "القدس" للكاتبة سيلما لاغرلوف. وجدت غرانكڤيست العديد من الأخطاء المتعلقة بحقيقة أن لاغرلوف فشلت في النظر في السياق الديني والتاريخي. كما وأتهمت المؤلفة بإضافة "ورنيش، اي طلاء غريب" إلى روايتها عن طريق تعديل الشخصيات بتعمد بإستخدام أوصاف شخصية زائفة لإضفاء وميض أكثر غرابة على الشرق 'كما لو كانت لوحة'. كان هذا شائعا بين المؤلفين الذين كانوا يكتبون عن الأراضي المقدسة ولكنه تناقض بشكل حاد مع طموح ورغبة غرانكڤيست في تصوير كل فرد وفقا لمزاياه الخاصة وابرازه بشكل واقعي من أجل إظهار التنوع الغني للواقع.
في صيف عام 1940، سافرت غرانكڤيست إلى ناس في دالارنا حيث قابلت أقارب طائفة القدس اقارب السويديين في القدس، حتى تتمكن من تكوين رأي دقيق عنهم. في طريق عودتها إلى فنلندا، حاولت دون جدوى بيع نسختها البديلة من قصتهم، "الحالمون والأوهام في الواقع والقصائد" إلى عدد من دور النشر في ستوكهولم.
فلسطين – وطن روحي (1941-1972)
العيش مع الأطفال والكتابة عنهم
خلال حرب الاستمرار في فنلندا، بقيت غرانكڤيست في هلسنكي تعمل على المواد التي جمعتها عن أطفال أرطاس. وقد قسمتها إلى مجلدين من أجل الوضوح. استمر العمل ببطء، واضطرت إلى أخذ قسط من الراحة أثناء التطوع في إجلاء مزرعة سيوندبي في بوركالا Sjundby Farm at Porkala بعد هدنة عام 1944.
كانت الأوقات صعبة في فنلندا بعد الحرب. حتى غرانكڤيست، التي كانت معتادة على حياة بسيطة، اعترفت لـسيني إكبلاد Ekblad Signe بأنهم "يفتقرون إلى كل شيء". كان صعوبة نشر الكتب مؤلمًا لها بنفس القدر، خاصة عندما يتعلق الأمر بالكتب عن فلسطين. " أخيرًا، نُشر كتابها "الولادة والطفولة عند العرب" في عام 1947، وبعد ذلك بثلاث سنوات نشر كتبابها "مشاكل الأطفال عند العرب"، وكلاهما نشرتهما دار النشر سودرسترومز Söderstroms. كان الأطفال جزءًا كبيرًا من الحياة اليومية لغرانكڨيست أيضًا، حيث اجتمع أبناء وبنات إخوتها حولها لسماع قصص عن فلسطين.
كانت فلسطين دائمًا في ذهن غرانكڨيست؛ وتابعت بقلق التقارير الإخبارية عن الحرب وتشريد أكثر من 700000 فلسطيني عقب إعلان دولة إسرائيل في عام 1948. كتبت على نطاق واسع، وتحدثت حول مصير الفلسطينيين، وكانت ترسل بانتظام جزءًا من دخلها الضئيل إلى أرطاس.
الرحلة الأخيرة إلى فلسطين
في ربيع عام1959، عادت غرانكڤيست للمرة الأخيرة إلى فلسطين، بمنحة سفر من مؤسسة إيلين فاغنر Elin Wägner Foundation. عندما وصلت إلى القدس، بالكاد تمكنت من التعرف على المدينة حيث اختفى العديد من المنازل، بل وحتى أحياء بأكملها قد اختفت. تم حل مستعمرة القدس وتم تحويل مبانيها الى فنادق. أرطاس ايضا تغيرت، وصل العالم الحديث إلى أرطاس، التي يسكنها الآن جيل جديد من القرويين. كانت عودة حزينة، فقط عدد قليل من "النساء المسنات" اللاتي تذكرنها.
صُدمت غرانكڤيست بشدة من الاحباط واليأس الذي واجهته في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. وفي برنامج إذاعي بُث بُعيد عودتها إلى فنلندا، أعربت عن استيائها من الطريقة التي يواصل بها الشعب في فنلندا غض الطرف واغلاق اعينهم عن محنة الفلسطينيين.
خلال رحلتها الأخيرة إلى فلسطين، عملت غرانكڨيست على كتاب عن تقاليد الموت والدفن أطلقت عليه "كتاب "الموت والدفن لدى المسلمين". لم تنسَ إدانة ساريسالو لمهاراتها اللغوية، وحرصت على أن يتم فحص جميع استشهاداتها واقتباساتها العربية من قبل خبراء يتحدثون العربية.
وجود سلمي
وبحلول أواخر ربيع عام 1959، عادت غرانكڤيست إلى هلسنكي، وأحرزت تقدما بطيئا في "كتاب الموت"، الذي نشر أخيرا في عام 1965 تحت عنوان "الموت والدفن لدى المسلمين". كان من المفترض أن يكون آخر كتاب لها. واصلت بحثها حول تقاليد الشرف، لكنها غالبا ما كانت تضطر الى أخذ قسط من الراحة بسبب اعتلال صحتها، ولم يكن هناك كتاب حول هذا الموضوع، كانت المواد المحفوظة متناثرة، مستندة الى حد كبير الى معلومات ثانوية لم تكن ذات أهمية علمية مماثلة لموادها الخاصة من أرطاس.
بعد وفاة شقيق غرانكڤيست فالتر المفاجئ خلال رحلة عمل في عام 1960، واصلت العيش بجوار عائلته في أولفسبيفاغن Ulfsbyvägen في هلسنكي. شاركت منزلها مع داغمار إكلوند Dagmar Eklund، واستطاعت أن تستمتع بزياراتها إلى السينما والكتب الجيدة والمشي.
الموت والإرث
مشاريع كتب على الرفوف والآمال لطالب باحث
خلال السنوات الأخيرة من حياتها، نظمت غرانكڤيست مذكرات عملها ومخطوطات ونصوص الكتب والرسائل والمقالات في مجلدات وملفات مكتبية مستعملة. كان أرشيفًا كبيرًا. خططت لمراجعة وتنقيح مذكراتها من زيارتها لفلسطين في 1930-1931 بهدف النشر، واختارت صوراً فوتوغرافية لكتاب صور. تم التخلي عن كلا المشروعين، على الرغم من أن العديد من الصور التي اختارتها تم نشرها بعد وفاتها من قبل كارين سيغرKaren Seger.
في عام 1969، اقترحت عالمة الأنثروبولوجيا الفلسطينية وداد قعوار ترجمة كتب غرانكڤيست إلى اللغة العربية. لقد شعرت غرانكڤيست بالإطراء والسرور، لكن لم يحدث شيء. جاءت الترجمة العربية الأولى" لظروف الزواج" في أواخر عام 2015.
في عام 1970، اتصلت غرانكڤيست بعالمة الأنثروبولوجيا البريطانية شيلاغ وير Shelagh Weir فيما يتعلق بمعرض للأزياء الفلسطينية في لندن. بدأت مراسلات مكثفة، وفي أوائل عام 1972 حصلت وير على منحة مكنتها من السفر إلى هلسنكي. وأخيرًا بعد طول انتظار، سوف تتمكن غرانكڤيست من استقبال طالب باحث الذي كانت تفتقده دائماً. لكن الوقت لحق بها مرة أخرى، وتوفيت هِيلْما غرانكڤيست في المنزل في 25 شباط/ فبراير 1972.
ذهبت شيلاغ وير إلى هلسنكي للمساعدة في تنظيم الأرشيف الذي تبرعت غرانكڤيست به، كانت رغبة غرانكڤيست الصريحة هي إتاحة الأرشيف للباحثين. لذلك تم نقل كتبها ومذكراتها والملاحظات الميدانية والصور والمخطوطات والمراسلات المتعلقة بالعمل إلى لندن حيث يديرها اليوم صندوق الإستكشاف الفلسطيني.
وأهتمت مكتبة جامعة أوبو أكاديمي Åbo Akademi بالرسائل ذات الطابع الخاص والمواد الأكثر خصوصية باللغة السويدية، والتي اعتُبر أنه من الصعب الوصول إليها من قبل الباحثين الدوليين.
لا ندم
عندما نظرت هيلما غرانكڨيست إلى حياتها وهي في خريف عمرها، رغم كل النكسات، شعرت بالرضا والارتياح. لم تندم أبدًا على الاختيار الذي اتخذته في أرطاس عام 1925: دراسة الحياة في قرية فلسطينية من الداخل. وكانت ستبقى لفترة أطول في أرطاس لو كانت قادرة على تحمل تكاليف ذلك. وعلى الرغم من أنها قضت بضع سنوات فقط هناك، كانت القرية دائمًا في ذهنها وفلسطين دائما في قلبها.
كان البحث الفلسطيني هو دعوة غرانكڤيست. لقد أسعدها ذلك كثيرًا ومنحها سرورا عظيما، ولكن أيضًا أعداء، لا سيما بين الزملاء الذين افتقروا إلى الشجاعة والعزم على اقتحام مسار جديد وعلى فتح آفاق جديدة والذين عرقلوا بغيرة وحسد كل خطوة في حياتها ومسيرتها الأكاديمية.
كانت أبحاث غرانكڤيست فريدة ومبتكرة من نواح عديدة. وسرعان ما أدركت أهمية العيش في المجتمع الذي درسته، وكانت أول من سلّط الضوء على حياة المرأة الفلسطينية. من خلال تسجيل بيانات إحصائية مفصلة، تمكنت من دحض وكشف فرضيات قديمة ومفاهيم خاطئة، وتمكنت من إثبات أن الواقع مختلف جدا عن المعرفة التي تلقتها عن المجتمع الذي درسته.
على الرغم من كل هذا، سرعان ما تم نسيان هيلما غرانكڤيست في فنلندا. أصبحت الضحية التي يؤسف عليها لتحول نموذجي، مما يعني أنه بدلاً من أن يتم الترحيب بعملها والإشادة بدورها الرائد، أصبحت مرتبطة بإدوارد ڨيسترمارك ومدرسة فكرية عفا عليها الزمن. وبين العلماء الأوروبيين، كان يُنظر إليها أيضًا على أنها ممثلة للبحوث الإثنوغرافية القائمة على الكتاب المقدس والتي كانت تعارضها بشدة.
لكن غرانكڤيست لم تُنسى في فلسطين لا تزال ذكرى هيلما غرانكڤيست حية في فلسطين، حيث لا يزالون يشيدون بذكراها وما زالوا يحيون ذكراها. في أرطاس، في أواخر الثمانينيات، تذكر القرويون المسنون الشقراء "ست حليمة" وهي تصل فوق التلال من بيت لحم. جعلت الحرب والاحتلال بحثها الشامل عن مجتمع مختفي أكثر أهمية مما كانت تأمل في أي وقت مضى. ولهذا السبب لا تزال تحظى بالاحترام والتذكر والثناء في فلسطين.
لم تكن هيلما غرانكڨيست مهتمة بالمكانة أو الشهرة. كانت راضية لأنها وجدت دعوتها في ركنها الخاص من العالم:
كان من الرائع أن يكون لديّ قرية خاصة بي، حيث أنتمي إليها، ركن خاص بي في الأراضي المقدسة. ان شدة المشاعر والذكريات تمر. ومع ذلك، ما زلت أجد متعة في القيادة إلى أرطاس واستقبالي وتلقي التحية من قبل أول رجال أرطاس ونساء أرطاس الذين التقيتهم على طول الطريق. أنهم أصدقاء المرء. إنها خاصة بالمرء. أعرف قصتهم.
(يوميات 12 ايلول/ سبتمبر 1930)